September 12, 2020 ☼ أسطر إلكترونية ☼ بريل ☼ تقنية ☼ مقالات ☼ مكفوفين
في طفولتي كشخص فاقد للبصر، كنت أحمل كُتُبًا ثقيلةً معي إلى المدرسة، في حقيبةٍ يبلغ وزنها قرابة ستة كيلوغرامات، وكنت أصطحب آلة بيركنز الخاصة بطباعة بريل معي ذهابًا وإيابًا، والتي كانت بنفس الوزن تقريبًا.
في تلك الأيام، كنت أراقب برعب أختي الكفيفة التي تكبرني بستة أعوام، وهي تحمل حقيبة سفر من وإلى معهد النور، حاملةً فيها كتبها، وفي تلك اللحظة سألت نفسي قائلاً: هل سأحمل حقيبةً كهذه عند وصولي إلى المرحلة الثانوية؟
وفجأةً، سطع المستقبل كالشمس إذ تُشْرِق!
مرحبا بكم في عصر أسطر بريل الإلكترونية! إنها أجهزة صغيرة قادرة على احتواء المئات من الكتب والملفات النصية ومقاطع الصوت. ليس هذا فحسب، بل يمكنك من خلالها تصفح الإنترنت والبحث عن المعلومات، إنه عالم تحت أناملك! ولا تقلق، فوَزْن الواحد منها لا يتجاوز الكيلوغرامين والنصف! كل ما يلزمك لاقتناء أحدها، هو دفع مبلغ عشرين ألف ريال سعودي فقط! اغتنم الفرصة وكن في الصف الأول دائمًا.
أيُّ مُسْتَقْبَلٍ هذا؟ أَيُّ سِعْرٍ فَلَكِيٍّ هذا؟!
وعلى الرغم من سعرها المرتفع، إلا أنني سعيت للحصول على أحدها بالتقسيط، واستمر دفعي للأقساط على مدى أربع سنوات. لم أكن أبالي حينئذ، إذ كان لِزامًا عليَّ شراء سطر إلكتروني لظروف الدراسة والعمل.
ومع دخول الأجهزة الذكية إلى كل بيت، وانخفاض أسعار الحاسب الآلي إلى مستوى يسمح لغالبية الناس باقتنائه، قلت الفجوة بين المكفوفين وبقية أفراد المجتمع، فكم من جهاز خاص بالمكفوفين استُبْدِلَ ببرنامج مجاني أو رخيص الثمن على جهاز iPhone.
ولكن ما زالت أسطر بريل على حالها، فثمنها الباهظ يُعَدُّ عائقًا أمام الآلاف من المكفوفين الذين يودون الاستفادة من مزاياها. وفي هذا المقال، سأحاول –وبكل موضوعية– الإجابة عن جزء من هذا السؤال المحير:
لماذا ترتفع أسعار الأسطر الإلكترونية؟
إن طريقة بريل هي نسخة مطورة من رموز سرية، أنشأها تشارلز باربير للجيش الفرنسي بقيادة نابليون في القرن التاسع عشر. وتتألف الرموز من اثنتا عشرة نقطة، تُكَوِّن مجموعة من الأصوات التي يمكن استخدامها للتواصل بين الجنود.
التقى لويس بريل بباربير في عام 1821 في باريس، واستطاع استيحاء طريقة بريل التي نعرفها اليوم، والتي تتكون من ست نقاط، تمثل كل مجموعة منها حرفًا أو رمزًا معينًا.
توفي لويس بريل في عام 1853، وذلك قبل سنة من اعتماد فرنسا لطريقة بريل رسميًّا للتواصل مع المكفوفين.
استمر تطور أجهزة بريل والوسائل الخاصة بها، ففي عام 1960 تم إنتاج أول جهاز لترجمة الخط العادي إلى طريقة بريل، وذلك بتعاون شركة IBM مع دار الطباعة الأمريكية للمكفوفين في لويزفيل ، كنتاكي، والذي استُخْدِمَ في الدار آنذاك.
وفي عام 1970، قام المخترع نورمان بي بتسجيل أول براءة اختراع لسطر بريل يمكن تحديثه إلكترونيًّا، وذلك من خلال إرسال إشارات كهربائية إلى كل نقطة في كل خلية موجودة على سطر بريل.
تطورت تقنيات عرض بريل بعد ذلك بشكل متسارع وكثرت براءات الاختراع حولها، ولكنها تستخدم في الغالب نفس الطريقة المشار إليها في براءة الاختراع المذكورة أعلاه، وما زالت الأبحاث في هذا المجال قائمةً حتى اليوم.
أما من حيث نظام التشغيل، فقد كانت أسطر بريل في السابق تستخدم أنظمةً بسيطة لأداء مهام محدودة، ثم انتقلت إلى أنظمة Windows CE التي أتاحت لها معالجة النصوص بشكل متقدم، وإدارة الملفات والمجلدات، والاتصال بالإنترنت.
أما اليوم، فنجد بأن معظم أسطر بريل المتقدمة تستخدم نظام Android مما يتيح لها تنزيل مختلف التطبيقات من متجر Google ومشاهدة مقاطع الفيديو على Youtube, ومشاركة المحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لتحليل أسباب ارتفاع الأسعار، علينا أولاً فهم الطريقة التي تعمل بها تلك الأسطر.
إذا ألقينا نظرة داخل معظم أسطر بريل الإلكترونية، فسنجد بأنها تحتوي على كثير من الأسلاك التي تتصل باللوحة الأم، والتي ترسل بدورها إشارات كهربائية إلى كريستالات من نوع خاص.
تتميز هذه الكريستالات بأنها تتمدد في حال تسليط إشارة كهربائية بفولت محدد عليها، وتتقلص عندما تزول هذه الإشارة إلى حجمها السابق، وتُعْرَف هذه التقنية باسم ceramic piezoelectric bimorphs.
توضع هذه الكريستالات تحت كل نقطة من نقاط بريل المنتشرة على السطر الإلكتروني، وحين تمددها أو تقلصها، تقوم بتحريك عتلة صغيرة، تحرك بدورها قلمًا ذو رأس مدبب يمثل نقطة بريل صعودًا وهبوطًا.
إذًا، فإذا كان لدينا سطر إلكتروني مكون من 32 خلية، فإننا نحتاج إلى 8 كريستالات، و8 عتلات، و8 أقلام مدببة لكل نقطة في الخلية الواحدة، أي ما مجموعه 256 نقطة للسطر الواحد.
وهنا يكمن جزء كبير من غلاء سعر هذه الأجهزة، إذ تحتاج إلى الكثير من التقنيات المتقدمة لتعمل بالشكل المطلوب.
تكون تقنيات أسطر بريل عادةً محمية ببراءات اختراع، وقد تضطر إحدى الشركات المُصَنِّعَة لدفع مبلغ مقطوع أو نسبة معينة من سعر كل سطر تبيعه إلى الشركة التي تملك حق براءة الاختراع؛ كي تتفادى النزاعات القضائية والتهم بسرقة براءة الاختراع، تمامًا كما يحدث مع الشركات الكبرى.
للإنصاف، فإن عتاد أسطر بريل الإلكترونية ليسَ مُبْهِرًا، فهي –في نظري– لا تقارَن بأجهزة أقل سعرًا وأكفأ في الأداء بعشرات المرات، ولكنها تلبي الحد الأدنى من الاحتياج للمستخدم العادي، بما يضمن له أداء المهام البسيطة أثناء التنقل خارج المنزل، لاسيما عند النظر إلى الأجهزة العاملة بنظام Android والتي ظهرت على الساحة في السنوات الأخيرة.
ولكن هذا لا يعني أن العتاد والنظام لا يأخذان وقتًا وجهدًا للتطوير، إذ يجب على الشركة المُصَنِّعَة تطوير نظام يتوافق مع العتاد الموجود داخل السطر الإلكتروني، بما يضمن كفاءة النظام وسلاسة الاستخدام للمبتدِئين، وهم الفئة الأكثر استهدافًا من هذه الأجهزة.
تتضمن هذه العملية اختبارات كفاءة البطارية، نظام عرض بريل، تطوير برامج خاصة بالسطر الإلكتروني، إتاحة التوافق مع التطبيقات التي يتم تنزيلها من متجر Google, وغيرها الكثير…
وهنا أود أن أقف وقفة مهمة: فالتطوير والاختبار البرمجي يأخذان وقتًا كثيرًا وجهدًا كبيرًا. ولا يمكنني تجاهل الضغط والتحديات التي يواجهها المطورون، فهي من أصعب مراحل التطوير وأكثرها تعقيدًا، ولعل من مروا بتجارب برمجية هم أكثر الواعين بالتجارب والإحباطات.
لذا، فإن سعر هذه الأجهزة يشمل سعر العتاد الموجود بداخلها، وأجور هؤلاء الموظفين الذين يعملون باستمرار لتطوير تجربة المستخدم، إضافةً إلى عمليات التطوير والتشغيل؛ لتمكينهم من القيام بأعمالهم بسلاسة.
كما أن الشركات المصنعة تحتاج إلى بذل جهود في التصنيع، فذلك هو الحال مع الشركات المعربة.
ولا يحتاج الموضوع في غالب الأحيان إلى الترجمة فحسب، بل تضطر الشركة إلى إعادة برمجة بعض مكونات النظام لتتوافق مع اللغة العربية، ولا أريد الدخول في التفاصيل المعقدة، ولكنها عملية طويلة جدا، تُراعى فيها أدق التفاصيل ليكون النظام ثنائي اللغة دون مشاكل رئيسية.
تقوم الشركات المُصَنِّعة بإجراء أبحاث لتطوير تقنيات أسطر بريل والخطط والمشاريع المستقبلية، الأمر الذي يتطلب أموالاً لاستمرار العمل عليها.
ولعلنا نلاحظ ظهور منتجات بأسعار منخفضة بعض الشيء من عدة شركات؛ ويعود ذلك إلى الأبحاث التي تهدف إلى تطوير جودة الأسطر وخفض أسعارها قدر الإمكان.
في واقع الحال، نحن نتعامل مع شركات تجارية تهدف للربح، لا جمعيات خيرية قائمة على التبرعات. وتحتاج تلك الشركات الكثير من المال كي تبقى قادرةً على الإنتاج والمنافسة، إضافةً إلى تغطية النفقات التسويقية، والنفقات القانونية والمحاسبية، وغيرها من النفقات التشغيلية، والضرائب الحكومية.
ولا ننسى الأرباح التي تجنيها تلك الشركات، فكم من شركة أفلست أو جرى دمجها بأخرى؛ لتردي أوضاعها المالية، أو كسادٍ يصيب الاقتصاد. ولنا في جائحة فيروس كورونا المستجد (COVID-19) خيرُ عِبرة.
الواقعُ إن المكفوفين يُحْجِمُونَ عن شراء أسطر بريل لِغَلاء أسعارها، ولا يمكن للشركات خفض الأسعار لقلة كميات الأجهزة المطلوبة. ففي عمليات التصنيع، يقل سعر الأدوات كلما زادت الكمية المطلوب تصنيعها.
تحد هذه الدائرة من وصول أسطر بريل إلى أيدي المستفيدين، وقد حاولت شركات مثل أوربت أن تكسر تلك الدائرة من خلال طرح جهاز منخفض الثمن، ولعل السنوات القادمة تكشف عن حلول لهذه المشكلة.
قامت العديد من الشركات والجمعيات والمؤسسات بطرح العديد من الأوراق البحثية لتقنيات بديلة للتعامل مع نقاط بريل بدلاً من تقنية ceramic piezoelectric bimorphs, ويؤسفني أن العديد منها لم يكتمل إنجازه بسبب قلة الدعم المادي.
وفي مثال على ذلك، فقد قامت شركة Pera Technology بالبدء في مشروع بمسمى Anagraphs, والذي حصل على دعم من الاتحاد الأوروبي بأكثر من مليون وثلاث مئة ألف يورو، أو ما يعادل خمسة ملايين ريال سعودي.
تمثلت فكرة المشروع في إنتاج قارئ كتب للمكفوفين، يعتمد على تركيز الحرارة على شمع البرافين الذي يتمدد محرِّكًا نقاط بريل. ويؤدي انخفاض تكلفة شمع البرافين إلى انخفاضٍ كبيرٍ في أسعار أسطر بريل المنتجة بهذه التقنية.
وفي عام 2014، نفدت الأموال المخصصة للمشروع، وتم إيقافه لغياب الدعم المادي.
وقد حان الوقت لشركات التقنية الكبرى ك Apple و Microsoft لدخول عالم أسطر المكفوفين وتغييره إلى الأبد، كما حدث مع الهواتف الذكية وأجهزة الحاسب الآلي.
وقد قرأت العديد من الأبحاث التي تتحدث حول رسم نقاط بريل على شاشة باستخدام المجال المغناطيسي أو تقنيات الاهتزاز, ولكنها تظل أبحاثًا ننتظر أن تُأتي أُكُلَها مستقبلاً.
لم تعد أسطر بريل تبهرني منذ زمن، فارتفاع الأسعار مقارنةً بانخفاض المواصفات التقنية يجعلني لا أستخدم سطر بريل إلا عند القيام بمهام محدودة جدا لا تتعدى قراءة النصوص وتدوين الملاحظات.
وقد حاولت في هذا المقال تسليط الضوء بموضوعيةٍ وتجرُّدٍ على عدد من أسباب ارتفاع الأسعار، لا تبريرًا للشركات وسياساتها، بل تقريرًا لواقع تقنيات بريل ومأساتها.
في عالم يتسارع فيه التقدم التقني في شتى المجالات، يجب على الشركات الرائدة في مجال الابتكار والتطوير العمل لتغيير الوضع الراهن، فأسعار أسطر برايل المرتفعة أدت إلى عواقب وخيمة، وستظل الأوضاع في تردٍّ ما لم يكن هنالك دعم حقيقي ونظرة جادة للتطوير.
فقد أدى ارتفاع الأسعار إلى ابتعاد الكثير من المكفوفين عن طريقة بريل، الطريقة الوحيدة للقراءة والكتابة للشخص الكفيف؛ إذ كَبُرَت الفجوة بين طريقة بريل وتقنيات التعلم والترفيه الحديثة، في عالم بدأ حِبْرُه بالجفاف، وأوراقه بالتساقط لِتَحُلَّ شاشات اللمس مكانها.
فهل ستندَثِرُ طريقَةُ بريل؟ وهَل يَحُلُّ الصوتُ مَحَلَّ اللمْسِ في القراءةِ والكتابة يا ترى؟
اللَّهُ أعلم!